رشـفـةُ عـودة
كيف ينسى نفحاتَ التراب التي كان يمزجها كل يومٍ بين يديه ويسقيها ماءً , يرى نموها يوماً بيوم فتكبر أمام ناظره , تماماً كأولاده , له ثمانيةٌ من الأولاد , هي عائلة فلسطينية الأصل , ومن المعروف أن عائلاتنا تهوى الإنجاب .
اليوم بين الزقاق الحاشرة والحارات الراكدة على إشراقة شمس الصباح , وأنغـام العصافير المسجوعة , ونسماتُ الصباح التي تحفّ بوريقات الشجر الخضراء النضرة تتمايل يسرةً ويمنى .. يمشي الحاج قاسم ويتنفس رحيق الحياة من جديد , ويغيّر الأنفاس المختلطة بعد نومِ عشرةٌ من الأفراد في غرفةٍ واحدة في مخيمٍ للاجئين حامداً ربّه على عودةٍ للحياة من جديد بعد نومٍ مؤقت , صورته الخارجية وهو يلبس ذاك اللباس التقليدي النشمي المتميّز , السروال الواسع وعلى رأسِه العقالُ والكوفيه تعكس صورة الفخامةِ والأصل والعزة , يمشي رافع الرأس شامخاً , من ينظرُ إليه يعرف أنه ابن فلسطين الأم . بينما لو دخلتَ بأعماقه تجده دوماً يستعيد شريط ذكرياتِه الكثيرة المتزاحمة في وجدانه بحلوها ومرها من أول يومٍ قدِمَ فيه هنا للمخيم , كيف كان وكيف صار ..
بادرة الأمر كانت قاسية عندما فقد أحد أطفاله وهو هارب من رصاصات وطلقات اليهود أيام التشريد , للأسف فقدَه بين لوعة الحفظ على الروح والجزء الأغلى من الروح - الابن - بحث عنه بين الجموع المتشردة لم يلقَه , وسأل عنه شتى الأهالي لم يرَوه , نعم ! فصورة التشريد كانت أفظع من أن يخرج من بيته قسراً وتهجيراً تاركاً ذهباً ومالاً وأرضاً وولداً , بل وكرامةً أيضاً , فُقدَ الطفل وانتهى , لم يكن في قلبه أملٌ أن يجده في تلكَ الأيام عندما داهمت قريته الصهاينة ودمروها وهجروا أهلها , ليس عائلة أو اثنتين , أو حيٍّ أو اثنين , هي قرى ومدن ودولـــة . يبحث عن مكانٍ آمن يأوى فيه من المبيتِ على التراب والخوف من رصاصاتِ الاحتلال , وهنا بدأت حكاية اللجوء وتبعتها العودة , أحدهم ذهبَ لأقاربه في سوريا , وأحدهم لشركاء التجارة في لبنان , وآخرون ذهبوا على أركانِ الظلام لا يملكون مساندةً من أي شخص كما فعل آخرون , وقد كان الحاج قاسم أحد أولئك الذين هُجِّروا هو وأطفاله السبعة إلى الأردن حيث كانت الأقرب عليهم صورةٌ تحكي جل المعاناة , الأقدام تقف على الجراح , والعيون تلتقط الحزن التقاطاً والعقل يبحث عن مفردة تليق بوصف كل هذا الألم . على الحدود تصطف الخيام واحدة جانب الأخرى , لا يفصلها عن أختها سوى عشرين سنتيمتراً , واستقلها الجماعة الراحلة مع الحاج قاسم على أمل العودة للديار في أقرب فرصة , وهو يُقنع نفسه بأن الأمر سينتهي عن قريب جداً , حتى مرّ اليوم والاثنين والخمس , والحال على حاله , يستوقفه أمر طفلته الصغيرة بقولها : أبي , متى سنعود إلى البيت ؟ هل نحن في رحلةِ تخييمٍ هنا ؟!
يبتسم ابتسامةً خفيفة على تلك البراءة ويقول : سنعود بعد اسبوعينِ يا حبيبتي لا تقلقي .
فترد أنه لا بأس برحلةِ تخييم , ثم ما تلبث إلا وأن تلهو مع الصغار وتركض حول الخيام .
حرارة العيش ما بين الجيران أبناء الأم الواحدة وأخوة صلبة تسحق أي شعورٍ بالتفرق ..
- صباحُ الخير يا جاري قاسم , كيف الحال ؟
استوقف شريط الذكريات قاسماً على صوتِ جاره في الشارع الثالث من بيته بينما هو في مسيره , نعم الثالث , كانوا أبناءَ أرضٍ واحدة ولا زالوا , الكل يعرف الكل هنا , ويواسي ويفرح ويعاهد . سلّم الحاج قاسم على هذا الجار من بعيدٍ قائلاً : حياكَ الله يا حاج عبد .
- تفضل تناول الفطور معنا الخبز جهز من فرن الطابون منذ قليل واشرب كوباً من الشاي الساخن .
- حيا الله أصلَك يا طيّب
واعتذراً لطلبه , وما أن يلقَ هذا الجار يلحُّ عليه مراراً أخرى في شرب الكوب من الشاي , وإن قاسماً لا يحبُ أن يخذله , قبِلَ عرضَه وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث الصباحية عن الوضع الجديد بل في الحقيقةِ وضعٌ مهترِئ .
- ما أخبارك يا قاسم أخبرني ؟
- آه يا حاج عبد , أفكر في حالنا أين سيرسو , صبرنا الكثير .
- احتسبْ يا حاج , وما بعد المصيبة إلا الفرج .
- لا أدري لقد أصبحنا في عداد الموتى , لا أحد ينظر في مصيبتنا , أصبحتُ أفكر في السفر بعيداً .
- أي سفرٍ بربك ؟ وحّد الله يا رجل .
- كما أقول لك .
- إلى أين ستسافر ؟ والأولاد ؟ وأيضاً أين هويتك وجواز سفرك ؟ ثمّ أي دولةٍ حمقاء ستستقبل الموتَ ؟
- الموت ؟!
كتاباآت : ناديـة عوني الدلو ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق