الجـزء الثاني من " رشفـة عودة "
.....
- إلى أين ستسافر ؟ والأولاد ؟ وأيضاً أين هويتك وجواز سفرك ؟ ثمّ أي دولةٍ حمقاء ستستقبل الموتَ ؟
- الموت ؟!
- يا حاج قاسم , نحن نعيش في مخيمات عربية وترى ما يعاملوننا أهل العرب الجيران من قسوة , لا وظيفة و لا هوية ولا خدمات تدل على أننا بشر على الأقل , الصرف الصحي على الدوام معطل حتى مياه الشرب مالحة كل هذا لأننا نحمل اسم فلسطينيين بل ولاجئين أيضاً , كيف وإن ذهبتَ لدولةِ لا تعرفُ أصلك ؟
- أصبحتُ أشتهي حياةً كريمةً يا رجل , علّي أجدها في الخارج .
- لا تقل هكذا إن الله لا ينسى عبده , وما علينا سوى الصبر , تحملنا القليل والكثير , رأيتَ بدايةَ ما عشناه على أمل عودةٍ قريبة من الخيام , تحولت القيام إلى أسقف ( زينجو ) يكاد ينهار فوق أصحابه , حولنا الخيام لمدارس , ولا زلنا نقاوم في هذه البيوت الهشة , ولا زلنا نجاهد لننال رضا الله . صبراً يا حاج قاسم .. صبراً , فالعودة قريبة .
- حسبُنا الله ونعم الوكيل ! شكراً على كوب الشاي , سأذهب الآن أراكَ قريباً , سلامات .
أعاد الشريط الذي قطعه صوت الحاج عبد إلى ابنه الذي سُجن , وأعادَ أمله من جديدٍ بعودةٍ له , تأسياً بكلام الحاج عبد , ربما كان ابنه يبحث عنه الآن كما هو يبحث , فكيف في نهاية الأمر يبحث ليجد أبيه راحلاً أبعد مما توقع ؟ وأيضاً ها هي الفتاة التي كانت في رحلةِ تخييم كبُرت و تزوجت من ابن عمها وقد طالت رحلةُ تخييمهم .. أما أبنه الأكبر لم يتزوج بعد , والسبب أن اسمه ابن مخيمٍ ولاجئ , كيف يُقبل ابن المخيم الفقير زوجاً ؟! يا حسرة .
تنهداتٌ كثيرة تخرج من فيه , ويداه فوق رأسه , عاد إلى بيتِه داخلاً الغرفة المعيشية الوحيدة ينظر إليها ويتفقد معالمها عالراحل إلى عالم مجهول , كان مفتاح الأرض وداره معلقاً في وسط الحائط وينظر إليه برأسٍ مرفوع , جلس وإذ بأولاده يتهافتون عليه فحضنهم واستنشق رائحة الأبوةِ التي تصوّر السنين التي كدّها في تربيتهم هنا في المخيم . على العودةِ من جديد تربَّوا وفي كل يومٍ يذكر لهم أملاً جديداً بالعودةِ الموعودة وهو يتمنى من صميم القلب أن يعود لكنه في قرارةِ نفسه يعلم أنه لن يعود لأمرٍ جلل .
- أبي ! ألا نريد أن ننتهي من السفر القاسي هذا ؟
يصمت الأب وكأن ابنه يقرأ أفكاره وتترقرق دمعته , فيرفع رأسه لتعود الدمعة في عينيه ويعز عليه أن يُري ابنه ضعفاً
- سنعود يا ولدي حتماً , لا بد أن نصبر ونقف مجتمعين يداً واحدة لنتحرر من هذا القيد , سأعلمكم و أحفظكم قرآناً وعلماً ديناً ودنيا إن شاء الله لتعلموا حجم المسئولية التي تكلفها العودة إلى الديار .
يتكلم الابن البالغ من العمر خمسةً عشرة سنة : أبي , إنني وإخوتي تربيتك , وقد تربينا على الجهاد وعزة النفس والفوز بالمطلب مهما كلف الأمر .
يبتسم الأب ابتسامة فيها عزٌّ وشموخٌ وفرحةٌ لما أنتج من أولادٍ رغم ما ضاع منه .
- سنحرر أخي السجين .
- وسنجد أخي المفقود هذا وعــد .
- حمداً لله أنني سأترك أبناءً قادرين على حمل ما لم يحمله قبلهم . هذا مفتاح أرضي وعودتكم معلقٌ أمامكم , لا تتخلوا عنه يا أولاد .
- من العيب يا أبي أن نتخلّى عما كان صُلبكَ وصُلبنا من بعدك .
أخيراً وعـدٌ بالحرية منشود ..
رحل الأب من على دنياه الفانية إلى رحمة ربه وقد تمنى قبلةً لتراب أرضه , ذلك كان الحدث الجلل الذي ينبع من داخله ألا يرى أرضاً تمنى تقبيلها ولو لمرة أخيرة قد منعه .
اليوم يا حاج قاسم سروالك وقمبازكَ وكوفيتك ما زالوا في الصندوق الذي قدِمَ معكَ من قريتكَ مخبئينَ إلى حق عودةٍ مشهودةٍ موعودة .
فلم تعد الدموع والأمنيات تحتضر , أصبحت تتلهف بشوقٍ لما كنتَ تتلهف إليه ..
رحمكَ الله يا أبا القاسم .
كتاباآت : ناآديـة عوني الدلو ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق